صفحة :   

توضيح حول اختيارية العصمة:

وبعد أن اتضح: أن الإرادة الملحوظة في الآية أولاً وبالذات والمصرح بها بكلمة «يريد»، هي الإرادة التشريعية، ولكنها منبثقة عن إرادة أخرى تكوينية متعلقة بنفس التطهير لـ«أهل البيت» «عليهم السلام»، والتي ينتج عنها حقيقة: أنهم «عليهم السلام» معصومون من الذنوب بالفعل ـ نعم بعد وضوح ذلك ـ فإن السؤال الذي يلح بالإجابة عليه هنا هو: هل هذه العصمة اختيارية؟! أم أنها مخلوقة فيهم، بصورة جبرية! بحيث لا يمكنهم التخلف عن الخير، ولا التصدي لفعل الشر تكويناً؟!

والجواب:

إنه لا شك في أن العصمة من الذنب وغيره([1]) اختيارية، وليس فيها أي نوع من أنواع الإكراه والإجبار ولولا ذلك لبطل الثواب والعقاب، ولزمت محاذير أخرى، ونوضح ذلك في ما يلي:

إن الله تعالى هو الذي يفيض الوجود على الناس، وعلى أفعالهم ولكن العباد هم الذين يختارون أفعالهم ويبادرون إليها. والله لا يبخل بإفاضة الوجود عليهم وعليها.

فآية التطهير تفيد: أنه تعالى قد علم أن الأئمة لا يختارون إلا ما شرعه الله ويرضاه.

وذلك بسبب ما زودهم الله تعالى به من استعدادات ذاتية، وملكات نفسانية، وتوفيقات إلهية، وإمدادات غيبية. وبسبب أن عقولهم راجحة وفطرتهم معتدلة، وميزاتهم متوازنة وبسبب معرفتهم بما هو حق وباطل، وبما هو حسن وقبيح، بجلال الله وعظمته، وقدرته وسائر صفاته جل وعلا، نعم بسبب ذلك كله يسعون إلى نيل الكمالات، وإلى الحصول على أسمى الدرجات، والله لا يبخل عليهم لتنزه ساحته عن البخل، فيفيض عليهم من نعمه ويغمرهم بفيض كرمه على قاعدة:

﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ([2]).

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ([3]).

إذن، فالله سبحانه إذا كان يعلم: أنهم لا يختارون، إلا ما هو حسن وجميل، وما هو حق، وصلاح وفلاح، وأنه سوف يستجيب لإرادتهم تلك باستمرار ولن تتعلق إرادته التكوينية إلا بهذا النوع من الأفعال المرضية، والمحبوبة له تعالى، فيصح أن يخبرنا تعالى ـ بواسطة مفهوم الموافقة في الآية الكريمة، كما تقدم ـ عن أنه سوف لن يريد بالإرادة التكوينية إلا إذهاب الرجس والتطهير لهم.

تماماً كما هو الحال في الأنبياء الذين هم معصومون أيضاً، فإن الله لا يريد بالإرادة التكوينية إلا ما يختارونه هم.. وهم لا يختارون إلا ما هو خير وصلاح، وفلاح، ونجاح.

والسر في عدم اختيارهم إلا ما شرعه الله ويرضاه، أن الإنسان حيث يكون على درجة من الخلوص والصفاء، لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها، ولم يرث عن سلفه إلا الخصال الحميدة، والمزايا الفريدة، وقد تهيأ له أن يتربى خير تربية، وحصل على أفضل المزايا الأخلاقية والإنسانية، وكان على درجة عالية من التعقل والوعي، والمعرفة بالله، وبشرائعه وأحكامه، مع سلامة في الفطرة، وتوازن في المزايا، ومع قوة في الإرادة، فإنه سوف لا يفكر في الإقدام على أي قبيح. بل هو سوف ينفر من ذلك، ويتأذى منه، مع أن له تمام الاختيار والحرية، والقدرة على أن يفعل أو لا يفعل.

ولكنه حيث يراه منافياً لإنسانيته، وموجباً للنقص والتلاشي لكمالاته وخصائص شخصيته؛ فإنه لا يقدم على ارتكاب ذلك الأمر القبيح مهما كانت الظروف، وأياً كانت الأحوال، تماماً كما ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً([4]). مع قدرته تعالى على ذلك، والسبب هو منافاة ذلك لمقام ذاته الأقدس، ولكماله، وعدله، ولألوهيته سبحانه.

وكما لا يقدم الإنسان العاقل والمتوازن على شرب السم. وكما لا يقدم الطفل على وضع يده في النار، وكما لا تقدم الأم على ذبح ولدها، ولا على فعل كثيرٍ من الأشياء التي يرى الإنسان: أن فعلها مخل بكرامته، وبشخصيته.

فاتضح: أن مراد علمائنا من قولهم: إن الإرادة في آية التطهير تكوينية لا تشريعية هو ذلك، وليس المراد: أن العصمة مخلوقة فيهم بصورة إجبارية، بحيث يفقدون معها القدرة على المخالفة هنا، والموافقة هناك.


 

([1]) قد أوضحنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»، بعد الحديث عن غزوة بدر: أن العصمة عن السهو والخطأ والنسيان إختيارية أيضاً، فضلاً عن العصمة عن الذنوب والقبائح.

([2]) الآية 17 من سورة محمد.

([3]) الآية 69 من سورة العنكبوت.

([4]) الآية 49 من سورة الكهف.

 
   
 
 

موقع الميزان