وما نريد أن ننبه إليه هنا هو:
أن مسألة الجبر الإلهي قد استدل بها كثيرون لأمورٍ عجزوا عن إيجاد
التبرير المعقول، والمقبول لها، فأحالوا الأمر على الله سبحانه، ووجهوا
التهمة إليه مباشرة، حيث أمنوا من التكذيب، ومن أن يتصدى أحد للدفاع
عنه تعالى.
وقد صدرت هذه الإحالات على الله سبحانه وتعالى، ودعاوى
أن ما صدر منهم لم يكن لهم حيلة فيه، بل الله أجبرهم عليه، عن عدد من
كبار الصحابة والحكام والسياسيين.
ونوضح ذلك هنا بقدر ما يسمح لنا به المقام، فنقول:
إن عقيدة الجبر، هي من بقايا عقيدة
أهل الكتاب، وقد صرحت بها كتبهم المحرفة بصورة واضحة، فراجع: التوراة،
والتلمود، والإنجيل أيضاً([1]).
وقد حكى الله ذلك عن اليهود، فقال:
﴿وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾([2]).
ثم كانت أيضاً من عقائد المشركين الذين حكى الله عنهم
قولهم:
﴿سَيَقُولُ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا
وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ﴾([3]).
ثم إن هذه العقيدة قد بقيت مهيمنة على عقلية الكثيرين
من الناس الذين أسلموا، رغم شدة محاربة الإسلام لها. ومحاولاته الجادة
لاقتلاعها من عقل وفكر الإنسان العربي، المبهور بأهل الكتاب، والمتأثر
برواسب الشرك.
ولكن ذلك لم يكن أمراً سهلاً ولا ميسوراً. فاستمرت هذه
العقيدة تظهر في مواقف وتصريحات الكثيرين منهم.
حتى على مستوى أولئك الذين كان لهم نصيب في السلطة
والحكم، بل في أعلى مستويات القيادة بعد رسول الله «صلى الله عليه
وآله».
وقد ظهرت هذه العقيدة في الكثير من مواقف وكلمات
الخلفاء بعد الرسول، باستثناء علي، «عليه السلام» ثم في كلمات معاوية،
وعائشة، وخالد بن الوليد، وعمر بن سعد، والمنصور، وغير هؤلاء كثيرون،
كما يظهر من مراجعة النصوص التاريخية وغيرها. وقد كانت هذه العقيدة هي
المفتاح السحري، الذي تحلّ به الرموز، وتفتح به الكنوز، وتدفع به جميع
الاعتراضات، وتسد به جميع المنافذ.
فهي التي برر بها عثمان تمسكه بالحكم إلى أن قتل.
وبررت بها عائشة خروجها لحرب أمير المؤمنين علي «عليه
السلام». كما تقدم قريباً.
واحتج بها معاوية لعهده لولده يزيد الخمور والفجور
بالخلافة بعده.
واستدل بها عمر بن سعد لقتل الإمام الحسين سيد شباب أهل
الجنة «عليه الصلاة والسلام»، وارتكاب مجزرة كربلاء.
وهي الحجة التي استدل بها خالد بن الوليد لقتل مالك بن
نويرة وأصحابه المسلمين.
وهي التي برر بها معاوية والمنصور العباسي منع الناس من
الحصول على حقوقهم من بيت مال المسلمين.
ولم يقتصر الأمر على ذلك بل وضعت
الأحاديث على لسان النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» لتأييد هذه
العقيدة وتأكيدها، وترويجها ونشرها ويمكن الوقوف على شطر مما ذكرناه
بالمراجعة إلى المصادر الواردة في الهامش([4]).
ولكن الشيء الذي لاشك فيه هو أن أمير المؤمنين علياً
«عليه السلام» قد قاوم هذا النوع من الاعتقادات الفاسدة، والوافدة،
وتصدى له، وقد زخرت كلماته وخطبه بما يدل على خطل هذه العقيدة وفسادها.
وشهرة ذلك عنه وكونه هو حامل رايته يغني عن ذكر الشواهد الكثيرة له..
ولعل هذا هو بعض السر في إصرار الحكام الأمويين على
إشاعة هذه العقائد الفاسدة وترسيخها في أذهان وعقول الناس، فإنهم كانوا
يظهرون حرصاً شديداً على مضادة عليٍ وإبطال آثاره ومخالفته في كل ما
جاء عنه حتى ولو كان هو نص القرآن، وصريح العقل والوجدان، وذلك هو
ديدنهم، وتلك هي طريقتهم، كما يظهر بأدنى مراجعة لحياتهم، وسيرتهم،
وسياساتهم.
([1])
ذكر موارد ذلك يوجب تطويلاً على القارئ، وخروجاً عن الموضوع،
ولذلك فنحن نكل تتبع ذلك في مصادره إلى القارئ إن وجد حاجة
ماسة له.
([2])
الآية 64 من سورة المائدة.
([3])
الآية 148 من سورة الأنعام.
([4])
إن ما تقدم من أمثلة وشواهد، ومن أحاديث أيضاً موجود في
المصادر المختلفة بصورة متفرقة، فمن أراد أن يقف على متفرقاته
ويجمع بين شتاته، فليلتقط بعضه من المصادر التالية:
تأويل
مختلف الحديث ص5 و6 و29 و45 و48 و82 و83 و128 و235 و236 والهدى
إلى دين المصطفى ج2 ص162 و271 والمصنف للصنعاني ج10 ص119 / 122
و18 وج6 ص356 وحياة الصحابة ج2 ص12 و95 و94 و230 وج3 ص487 و492
و501 و529.
وراجع: الغدير ج7 ص147 و154 و158 وج8 ص132 وج9 ص34 و95 و192
وج10 ص333 و245 و249 وج5 ص365 وج6 ص128 و117 ونور القبس ص31
و266 و65 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج4 ص69 ومدارك التنزيل
(مطبوع بهامش تفسير الخازن) ج1 ص401 وقاموس الرجال ج6 ص36
والفتوح لابن أعثم ج4 ص239 وربيع الأبرار ج2 ص64 / 65 وج1 ص821
والمعجم الصغير ج1 ص158 و74 و130 و255 وج2 ص67 و55 والطبقات
الكبرى ط صادر ج5 ص148 و543 وج7 ص163 و417 وج3 ص72 و66 وكلمة
الأديان الحية ص77 و80 والإلمام ج6 ص119 ولسان الميزان ج1 ص448
والكفاية في علم الرواية ص166 وجامع بيان العلم ج1 ص20 وج2
ص148 و149 و150 وضحى الإسلام ج3 ص81 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي
ج1 ص340 وج12 ص78 / 79 والإمامة والسياسة ص183 والأخبار
الدخيلة (المستدرك) ج1 ص193و197 ومقارنة الأديان (اليهودية)
ص271 و249 وأنيس الأعلام ج1 ص279 و257 والتوحيد وإثبات صفات
الرب ص80 ـ 82 والمقدمة لابن خلدون ص143 و144 والأغاني ج3 ص76
والعقد الفريد ج1 ص206 وج2 ص112 وتاريخ الأمم والملوك ط
الإستقامة ج2 ص445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص43/49 عن
العديد من المصادر وتذكرة الخواص ص104 / 105 وتاريخ بغداد ج1
ص160 وبهج الصباغة ج7 ص120 والدر المنثور ج6 والمغازي للواقدي
ج3 ص904 والموطأ (مطبوع مع تنوير الحوالك) ج3 ص92 و93 ومصابيح
السنة للبغوي ج2 ص67 ومناقب الشافعي ج1 ص17 وصحيح البخاري ج8
ص208 والمعتزلة ص7 و39 / 40 و87 و91 و201 و265، عن: المنية
والأمل ص126 والخطط للمقريزي ج4 ص181 والملل والنحل ج1 ص97 /
98 والعقائد النسفية ص85 ووفيات الأعيان ص494.
وفي
الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج3 ص45 عن الطبري ج6 ص33 وج3
ص207 وعن الترمذي ص508.
وفي
حياة الصحابة نقله عن المصادر التالية: كنز العمال ج3 ص138 /
139 وج8 ص208 وج1 ص86 وصحيح مسلم ج2 ص86 وأبي داود ج2 ص16
والترمذي ج1 ص201 وسنن ابن ماجة ج1 ص209 والسنن الكبرى ج9 ص50
وج6 ص349 ومسند أحمد ج5 ص245 ومجمع الزوائد ج6 ص3 وج1 ص135
وتاريخ الطبري (مقتل برير) ج4 ص124 وج3 ص281 والبداية والنهاية
ج7 ص79.
ونقل
أيضاً عن: جامع البيان ج6 ص60 وعن تفسير القرآن العظيم ج1 ص594
وعن أنساب الأشراف ج5 ص24.
|